بدون الاستثناءات التي ترتبط دائماً بالقواعد العامة؛ فإن البيت هو المكان الطبيعي لعمل المرأة وهو الأصل، وأما عملها خارج بيتها بقصد مشروع ولمصلحة معتبرة شرعاً فهو الاستثناء.
وقد ورد في هذا العديد من النصوص التي دلت على أن الأصل الذي قررته الشريعة الإسلامية هو قرارها في بيتها ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ.. )( الأحزاب: من الآية 33 )، تلطفاً بها ووقاراً لها، وحفاظاً عليها وعلى كرامتها، ورفع مشقة العمل والكد والسعي على الرزق عن كاهلها، ولتفريغها لمسئولية القيام برعاية بيتها وزوجها وأولادها كما ورد في توجيه النبي صلى الله عليه وسلم للنساء : “والمرأة رَاعِيَةٌ على بيت زوجها وولده وهي مسؤولةٌ عنهم .. “( متفق عليه ).
وأما الاستثناء من الأصل فيُعمل به عند الضرورة الملجئة والمصلحة الشرعية المعتبرة من باب التخفيف ورفع الحرج والمشقة، وذلك لدفع حاجة فردية؛ كمن فقدت عائلها ولا تجد من يكفلها مع قدرتها على الكسب من عمل مناسب يكفيها ذل السؤال. أو للوفاء بمتطلبات حاجة أسرية؛ كأن تساند أباها في شيخوخته أو تساعد في تربية إخوتها الصغار، أو تعاون زوجها إن كان فقيراً أو عاجزاً عن القيام باحتياجات أسرته، أو أن تكون أرملة لا عائل لها ولا مورد وتسعى على تربية صغارها. أو لتلبية حاجة مجتمعية تتطلب أداء بعض الأعمال التي تُعد من فروض الكفاية على النساء لحفظ كيان المجتمع المسلم وصيانته وضمان سلامته؛ كمن تقوم بمهمة تعليم البنات، وتطبيب النساء والقيام بتمريضهن، ومداواة الجرحى والمصابين أثناء الحروب والأزمات، والقيام بخدمات الرعاية الاجتماعية، كرعاية الأطفال واليتامى والمسنين.. ونحو ذلك من الأعمال والمهام التي تناسب المرأة ولا يمكن لغيرها أن يكون بديلاً عنها. وعليها في هذه الحالات التوفيق بقدر الإمكان بين أداء عملها خارج بيتها وبين مسئوليتها تجاه زوجها وأولادها؛ كنفس مسئولية الرجل المطالب بالتوفيق قدر استطاعته بين عمله وبيته، والوفاء بحقوق زوجه ومتطلبات أولاده، والقيام بما يحتاجونه من رعاية وعناية وتربية وإشراف ومتابعة. فعمل المرأة خارج بيتها استثناء منضبط بقواعد وضوابط الشريعة الإسلامية ولا يمكن اعتباره قاعدة عامة للنساء في كل الأحوال، ويبقى الأصل دائما هو الأساس مهما قيل عن جدوى عمل المرأة خارج بيتها، ومهما قيل عن تغير شكل الحياة، ومهما قيل عن متطلبات المدنية الحديثة والتنمية والتقدم، فالتوزيع الأجدى والأمثل للأدوار الاجتماعية بين الرجل والمرأة تكون دائرة نشاط الرجل فيه خارج بيته، بينما تكون دائرة نشاط المرأة داخل بيتها كربة بيت قائمة على رعايته. وتوزيع الأدوار وفق هذه الأُطر لا يمكن بحال اعتباره من باب التمييز بين الجنسين، بل هو نتاج النظرة الواقعية العادلة التي تراعي القدرات والإمكانات والمواهب والملكات والفروق الفطرية والطبيعية بين الرجل والمرأة، ومن ثم وضع كل منهما في المهام التي تناسبه على الوجه الأكمل، بغية الوصول إلى أعلى نسبة انجاز – بالمعنى الشامل – للفرد والأسرة والمجتمع، وبدون التسبب في إحداث أي خلل يؤثر على نظام الأسرة والمجتمع وتربية النشء. والترويج بخلاف ذلك خلط للأوراق وقلب للحقائق ومجازفة بالمجتمعات الإنسانية تنذر بعواقب وخيمة، وما حدث من مظاهر الخلل والانحلال والتفسخ الذي أصاب الأسر في المجتمعات الغربية لخير شاهد على ذلك.
وإذا كان احترام التخصصات قد ثبت علمياً وعملياً أنه من أهم عوامل النجاح؛ فإننا وفي ظل النظرة الواعية لانشغال الأم بمهمة ربة البيت يمكن أن نصطلح علي تسميتها بـأنها ” أم متخصصة ” غير مشغولة بوظيفة أو مهمة غير هذه المهمة السامية، إنه التخصص الذي يُمَكّنها من ممارسة فطرتها وتفريغ طاقتها المُؤَهَلة لمنح طفلها حاجاته الطبيعية من الحب والحنان والرعاية الكاملة، وتنشئته وتربيته على القيم والمبادئ والسلوكيات السوية، وكل هذا أساسي في المراحل الأولى من مراحل تكوين شخصيته، لينشأ نشأة طبيعية متوازنة تنطلق لاحقاً لتؤدي دورها الإيجابي في الحياة، وقد أجمع المصلحون على أهمية دور الأم في هذه المرحلة الحساسة للمجتمعات البشرية، ولا يمكن أن ننتظر من المرأة نجاحات في هذه المرحلة الحاسمة وهي تاركة لبيتها ومشغولة عنه بالعمل في المكاتب والمصانع والأسواق والدواوين بغير ضرورة معتبرة. ومن الناحية النفسية والحياتية فإن الأولاد من حقهم أن يعيشوا في عشّ هادئ جميل وسكن مستقر مطمئن، كما أن الرجل من حقه أن يجد في بيته الراحة البدنية والنفسية ليتقوى بهما على أداء مهامه والقيام بمسئولياته، وأما المرأة فلن تجد راحة حقيقية سوى في مملكتها وسط زوجها وأولادها، وهكذا يكون البيت واحة غناء وجنة للجميع، للرجل وللمرأة ولأولادهما، وهذا له أكبر الأثر في سعادة المجتمع وأمنه واستقراره.
والإنصاف يقتضي أن نعترف بأن عمل المرأة في بيتها ليس بالأمر الهين أو اليسير، كما أنه ليس تعطيلاً لها أو مصوغاً لأن يحرمها دعاة التغريب من توصيفها بأنها امرأة عاملة، فإن قيام المرأة بمهمة أعمال البيت والإشراف عليه ورعاية أسرتها يعتبر بمثابة إدارة شئون دولة مصغرة، ويحتاج إلى التفرغ الكامل والوقت الكافي والذهن الصافي، وهو مجال إن قامت المرأة بحقه وصرفت له ما يستحقه لم يبق معها وقت تصرفه في أي عمل آخر خارج بيتها. ومن تدابير النظام الإسلامي وحكمته أنه حين كلف المرأة برعاية بيتها وأسرتها وفر لها أسباب التفرغ لهذه المهمة الكبيرة، فقد رفع عنها عبء توفير لقمة العيش ومتطلبات الحياة، وفرض على زوجها الإنفاق عليها وعلى أولادهما، ومن ثم لم يعد لها حاجة فعلية لترك عملها الأصيل في بيتها كي تعمل خارجه وتشتت جهدها وفكرها، فقد كُفيت ذلك كحق شرعي مقابل تفرغها إلى عمل أهم وأعظم مما يمكن أن تُحصّله من عملها خارج بيتها، وفي هذا يقول عباس العقاد: ” إننا نستطيع بغير تردد أن نفهم أن المجتمع الأمثل ليس هو المجتمع الذي تضطر فيه المرأة إلى الكدح لقوتها وقوت أطفالها، وليس هو المجتمع الذي تعطل فيه أمومتها وتنقطع لذاتها، وتنصرف إلى مطالبها وأهوائها، وليس هو المجتمع الذي ينشأ فيه النسل بغير أمومة وبغير أبوة وبغير أسرة، كأنه محصول من محاصيل الزراعة التي تتولاها الدولة عن الجماعة البشرية. وإذا اتخذنا حالة المرأة النافعة لنفسها ولنوعها مقياساً للمجتمع الأمثل، فخير ما يكون عليه المجتمع – إذن – أن تكون المرأة فيه مكفولة المؤنة في أمومتها، وأن تكون لها كفاية الأم التي تؤهلها لتزويد الأمة بجيلها المقبل، على أصلح ما يُرجى من سلامة البدن وسلامة الفكر والطوية. وفي مثل هذا المجتمع تجري العلاقة بين الجنسين على سُنَّة توزيع العمل وتقسيم الحقوق بالقسطاس؛ كل جنس يتكفل بما هو أوفق له وأقدر عليه، ويملك من الحقوق ما يحتاج إليه، ويتخلى عن العمل الذي لا يناسبه ولا يلجأ إليه إلا على اضطرار.
ومركز المرأة حيث أقامها القرآن الكريم، كفيل لها بكل ما يعوزها لتحقيق رسالتها الفطرية في هذا المجتمع المثالي على الوجه الأمثل. “. فالمجتمع المثالي إذاً هو المجتمع الذي يُعَظِّم ويُعّلِي من دور وقيمة عمل المرأة ربة بيت، ولا يحتقره أو يقلل من قيمته، ولا يدفعها إلى غيره بغير حاجة على حساب بيتها وأسرتها. ولعل هذه المهمة السامية لربة البيت قد انطفأ بريقها وفقدت الكثير من القناعات بأهميتها وجدواها بسبب حملات التشويه المتعمدة من أصحاب الدعوات التحررية المناهضة لبقاء المرأة في بيتها، حتى بدا للكثير أن مسمى ” ربة بيت ” فيه دونية للمرأة، وأن دورها سلبي لا قيمة له، وأنها معطلة وغير منتجة، ولا تعتبر امرأة عاملة تشارك في تنمية مجتمعها مثل التي تعمل خارج بيتها! ومن كيد هؤلاء أنهم مزجوا هذه المفاهيم المغلوطة بمفاهيم أخرى تحرض المرأة على ترك عملها المنزلي، وتصفه لها بأنه نتاج سلطة ذكورية تستغلها وتسخرها للخدمة بغير أجر أو بدون مقابل، وأنها ضحية للتمييز ضدها وضد مشاركتها في تنمية المجتمع باسم الدين والعادات والتقاليد الموروثة، وتدعوها باسم المدنية الحديثة وتحت مسمى التحرر من الاستعباد إلى ترك دورها الأسري الأصيل والثورة ضد ما تسميه بالأفكار الرجعية البائدة.. إلى غير ذلك من الدعاوى التي يطفح منها الشطط والتضليل والمغالطات، فكيف يُحَقِّرون عمل المرأة في رعاية أسرتها وبيتها ثم يُمَجِّدون عملها خارجه بدعوى مشاركتها في تنمية المجتمع! أي منطق هذا الذي يستندون إليه ويعتمدون عليه؟! فكيف تبني المجتمع من تهدم بيتها؟
وإذا كان الغرب ينادي برعاية المرأة والاهتمام بشأنها من منظور إنساني، فإن الإسلام فضلاً عن هذا قد حرص على العناية بها من منطلق أهمية وعمق دورها في المجتمع، ولتمكينها من القيام به على أكمل وجه، فهي حاملة بذور المجتمع، وهي الحاضنة والمربية والأساس في تكوين شخصية أطفالها ونموهم بدنياً وعقلياً ووجدانياً وأخلاقياً، وهبها الله تعالى من الإمكانات والاستعدادات الفطرية التي تمكنها من رعاية أبنائها والتأثير فيهم وتقويم سلوكياتهم، فإذا ما نجحت في رسالتها فقد نجت بأبنائها وبالمجتمع إلى بر الأمان، أما إذا فشلت فسيكون في ذلك أكبر الأثر والضرر على المجتمع بأسره، لذا كان الاهتمام بالأم وبدورها في بناء الأسرة والقيام على رعايتها وفق الرؤية الإسلامية العميقة يساهم بشكل صريح ومباشر في تكوين المجتمع الأمثل، وهذا النظرة الثاقبة لم تصل إليها أية عقيدة دينية أو أيديولوجية فكرية.
لقد آن الأوان لإعادة تقييم عمل المرأة كربة بيت بنظرة دقيقة وشاملة ومنصفة، فربة البيت لها كل الحق في أن يعتبرها المجتمع ” أعظم امرأة عاملة “، ومن ثم وجب أن تُشَرَّع لها القوانين التي تحميها وتصون كرامتها وتحفظ معنوياتها وتؤهلها وتُرَغّبها في التمسك بأداء دورها الأصيل في المجتمع، وتُحَصنها من مغريات التخلي عنه والتفريط فيه.
وينبغي على المرأة ألا تشغل بالها ولا تعير آذانها لهؤلاء الذين يُغْرُونها لترك مهمتها الأصيلة، كما ينبغي ألا تنظر لعملها المنزلي على أنه عمل ثانوي لا قيمة له أو أنه امتهان وتسخير لها كما يَدَّعُون، بل هو رسالةٌ وتكليفٌ برعاية أمانة، ويكفيها راحة بالها وأمنها واستقرارها في مملكتها، وأن الله تعالى سيوفيها أجرها، جزاء وفائها بما أمرها وكلفها به من رعاية بيتها وزوجها وأولادها.