أحلام مسافرة…
بقلم الدكتور:هادي سعدي،مختص في علم الإجتماع وأستاذ جامعي. كان دائما حلم الآباء حياة سعيدة لأبنائهم، و تلخصت الحياة السعيدة في عصرنا في شهادة مرموقة و مسكن جديد و عمل قار يوفر عيش كريم… إنها الذاكرة المسجلة في عقل كل شاب و شابة، مجتمع يهب الأحلام معلبة في آمال المستقبل و طموحات الكبار، و بعد سنين يستيقظ الشباب على أحلام مسلوبة و آمال مجهظة فإذا العمل و السكن يلفهما ضباب لا يريد أن ينقشع، و إذا الواقفون على أبواب الحياة متعبون من الإنتظار طامحون بابصارهم إلى ضفاف أخرى في عالمنا الصغير، توفر العيش و تفتح الآفاق!
إن مشكلة الهجرة(الحرقة) ،و لا أريد أن أسميها الحرقة ،هي في صغر العالم و انفتاح الآفاق، إنها مجرد مقارنة بين ظروف الحياة كما يرجوها كل أحد لأبنائه و بناته، و بين حياة قاسية لا تلبي الرجاءات و لا تغذي الآمال. و بماذا يقارن هذا الجيل ليصبر و يثبت؟ هل بالجيل السابق الذي خُطفت حياته و ذابت سنوات عمره في إنتظار مسكن و الصبر على ظروف لا تريد أن تتحسن؟!
إن الخيبة التي تراكمت طيلة سنوات في نفس جيل مضى ورثها منه أبنائه، فهم لا يريدون تكرار حياة البؤس و الخيبة التي اكتنفت قطاع كبير من الجيل الذي عانى من العزوبة و العنوسة و البطالة و هو صابر محتسب، إن عالم اليوم يوفر فرص أكبر و طرق شتى للعمل و السفر و التكوين و التعلم، إنه حلم الصورة و البلاد البعيدة، و هو عالم يحتفي بقدرات الأفراد بابداعهم في الرياضة أو الفن أو كل قدرة مختلفة جديدة و نافعة أو مسلية…إن هذه الأضواء و الألوان تخطف العقول و تسبي القلوب لذلك تجد الشاب يخاطر بالمال و الحياة ليدخل الجنة و يهرب من الجحيم، إنه لفرق شاسع بين عالمين أحدهما مغلق منتهي يمنع الأحلام و يقتل المواهب و الآخر مفتوح شاسع يعطي فرص و يحتفي بالابداع و التجدد، و لنا أن نتخيل شاب في قرية نائية في بلادنا الكبيرة متخرج من جامعة بطال لا يوجد في قريته شيء من مظاهر الحضارة و في يده محمول ينقله في لحظات إلى اقاصي الدنيا يشاهد و يرى الناس تعمل و تدرس و تشيد و تبني اوطانها!! إنها ساعات طويلة يقضيها أمام هاتفه أو محموله يقارن و يتحسر ثم لا يجد الأجوبة لأسباب التأخر و لا لإمكانية التغيير، إنه وضع نهائي كأنه الحكم بالإعدام على مسجون لا ينتظر إلا فرصة للهرب و الانعتاق، و ذلك هو حلم الآلاف، الهرب من البؤس و التخلف و الانعتاق من اليأس و العدم، انها الحالة النفسية التي تكتنف كثير من الشباب العالق بين عالمين يرفضانه و ينكران حقه في الحياة، كأن بحار العالم و صحاريه أصبحت منطقة الأعراف المشرفة على الجنة و النار… و كأن المسافرين فيها تائهون في منطقة لا يريد العالم المتحضر أن ينظر إليها و لا أن يعترف بها.
إن مشكلة اللجوء هي من مخلفات الاستعمار و الاستغلال و الحرب التي شنها العالم المتقدم على ضعاف العالم، و هي المشكلة التي انفجرت اليوم و توشك ان تعيد العالم إلى عهد الاندثار و التخلف.