أيام معدودات قد لا تعود!
هاهو رمضان يعود مجددا، يحمل معه ككل عام أيام معدودات .. نعيشها بطمأنينة تسكننا، وإيمان يتجدد فينا. لكنها تمضي في رمشة عين كالحلم ، تترك فقط صورا تترسخ فينا على شكل ذكريات، نستحضرها مستقبلا، تماما كما نتذكر كل رمضان عشناه مع ناس رحلوا عن بيتنا، عن حينا، أو غادرونا إلى العالم الآخر.. أو حتى مازالوا بيننا لكن بتجاعيد رسمتها السنين على وجوههم .
رمضان والأيام الخوالي.
سأتجرد من حاضرنا، ويومياتنا التي طغت فيها الماديات.. لأرحل بكم، بأرواحنا، إلى رمضان الأمس..بحثًا عن الأيام الخوالي، لنتغلغل سويا إلى جذورنا العريقة، وتلك المفقودة، وتلك التي لازلنا نحافظ عليها وقد أعدنا صياغتها لتتماشى مع عصرنا تحت مسمى الحداثة .ولحسن الحظ ما زال بيننا من يحتفظ بتقاليدنا على أصولها رغم متغيرات العصر.
من منا لا يتذكر أول يوم صام فيه ؟..او أطباق والدته التي تقدم عمرها ولم تعد تقوى يداها على الطبخ؟ أو أكلة من جدته المتوفاة ؟أو رائحة حساء تنبعث من مطبخه ؟أو خبز تقليدي من بيت الجيران؟… فيترقب الساعة وهو ييحصي عدد الدقائق التي تبقت على موعد الإفطار؟
يتفق الجميع ان رمضان الأمس كانت تميزه رائحة نشمها منذ اول يوم من شعبان ،الذي تتناقص أيامه فيقترب شهر الغفران, حيث كانت أمهاتنا وجداتنا تكرسن له الكثير من الاهتمام ,فيتم طلاء الجدران،وتجهز أواني الفخار المختلفة من قدور وطواحين الطين و طيسان اللبن وجرار الماء.. كما يقمن بتلميع أباريق الشاي وصينيات النحاس تجهزا لسهرات رمضان على فوانيس البخور ونكهات ألف ليلة وليلة .
كل شيء كان يجمعنا
كانت الخضر والفواكه طازجة ،لا أسمدة ولا مواد كيميائية تنضجها، وكانت جميع البقالة محلية الصنع. (كان الخير والخمير )كما يقال باللهجة الجزائرية بما معناه خير يتكاثر ..والمائدة مزينة بمقبلات وأطباق تقليدية منزلية الصنع تكفي لأهل البيت ،ومنها للغريب، والمحتاج ،وعابر السبيل نصيب .كل هذه المظاهر تجعلك تشعر أن المنزل في احتفال بهيج.
اما تباشير الفرح كانت تضيء أحياءنا، مع أضواء المساجد التي تتأنق بها شوارعنا .فتعم مدننا سكينة وطمانينة رغم الحركة والحيوية التي يتميز رمضان بها..كان الجميع يجد مكانه و يجد نفسه خلال رمضان ،اما النسوة فكن يستمتعن بإعداد الديول، تلك الأوراق الشهيرة التي يكاد يصبح صنعها المنزلي اليوم أسطورة .دون ذكر الدويدة ومختلف التوابل التي يتم طحنها قبيل رمضان لتحتفظ بنكهتها .
كل يوم من رمضان كان يزف بطلقة مدفع كالعريس إلى ليلة مباركة من لياليه. و كان الأطفال ينتظرون خارح البيوت نيران المدفع التي تعلن عن وقت الإفطار ، ثم يدخلون بفرح للجلوس على مائدة خاصة بهم . وقتها كان الطفل الصائم وحده يحظى بالجلوس مع الكبار .
كانت العائلات تتزاور فيما بينها بعد الإفطار لتبدأ حكايات جديدة تروى ،وبوقالات تتبادلها الفتيات تتخذنها كفرحة تبشر بالخير في انتظار عودة الرجال من المساجد بعد أداء التراويح.
رمضان اليوم .. ماديات تطغى على الروحانيات!
اليوم كل شيء تغير بسبب ضيق الوقت. فالنساء عاملات والوقت لم يعد له نصيب من البركة .. وبالرغم مما تتفنن في انجازه نساء اليوم ,محاولة منهن إدامة بعض التقاليد . وتقديم أشهى الأطباق. ومساهمتهن بدون أدنى شك بإضافة بعض الميزات الجديدة على الأطباق التقليدية الأصيلة .ولكن بعد يوم شاق يعدن فيه من العمل ,ويتجهن مباشرة إلى المطبخ لإعداد الوجبات المقتناة أساسا من المنتجات الغذائية المصنعة التي تغزو أسواقنا اليوم بمختلف أصنافها .
حياتنا اليوم أصبحت صاخبة..طرقات تعج بالمارة و السيارات ،يسوقها اغلب الصائمون بعصبية تتسبب في شجارات وحوادث مرور مفزعة قبل الإفطار ..صرنا نعيش فرادى فقانون حياتنا المعاصرة جعل الناس يبتعدون عن بعضهم أكثر فأكثر وان كانت تجمعهم نفس الغرفة , لكنهم لا يتبادلون حتى الحديث بينهم لانشغالهم بالهواتف الذكية . بينما كان يتبادل الجيران في بيوت مجاورة الأطباق من أجل متعة تذوق اطباق رمضان.
صحيح أننا حصلنا في حياتنا اليوم على راحة مادية ،وفرحة مرتبطة بها، لكن نمطنا المعيشي الذي يعتمد على الفردية لم يعد يتناسب مع هويتنا المسلمة . فنحن بحاجة إلى التواصل الحقيقي وليس الجلوس على أرائك ناعمة ,ننظر إلى شاشات ذكية ونفتقد إلى الأنس الحقيقي الذي نجده في أخينا الإنسان ..صحيح إن أسلافنا افتقدوا هذه الراحة المادية التي نعيشها اليوم لكنهم كانوا أكثر إشباعا منا.
ولحسن الحظ, مازال رمضان يجمعنا ويدعونا لنتوحد كل عام.